هل تعلم ما هي الحكمة؟

في عالمنا المعاصر عندما ننطق بكلمة حكمة لا يبدو أن الناس تتقبل المفهوم كما كانت فيما مضى. ففي المجتمعات الحرة الديمقراطية التي تعتمد على العلوم والتكنولوجيا تبدو الحكمة مفهوماً مارقاً لا يجذب الكثيرين. وفي عصر التخصص والتحديد في الاختصاص يبدو مفهوم الحكمة غامضاً ومبهماً وكبيراً. ومن الطبيعي أنه في هذا العصر حيث لا يرفع المرء عينه بعيداً عن هاتفه الجوال وعن مستندات البنوك والضرائب والفواتير ألا نجد الوقت أو السعة العقلية للتفكير في مفهوم الحكمة. 

لكن يجب القول أن الأمور لم تكن على هذا الحال دائماً. فكلمة حكمة ورد ذكرها في العهد القديم من الكتاب المقدس 222 مرة، والذي يتضمن أعمدة الحكمة السبعة. فقد ورد في سفر الجامعة أن الحكمة تغني أصحابها وكأنهم يملكون الفضة وتمنحهم الحياة.  حتى أن كلمة فلسفة تعني محبة الحكمة، والحكمة هي هدفها المنشود. ومن الأمثلة على ذلك هو ما قاله سقراط لأحد الشبان: أن لم تملك الحكمة فلن يكون لك أي قيمة، وفي حال امتلكت الحكمة فسوف يكون لك أصدقاء كثر لأنك ستكون ذو منفعة وخير للناس، وإلا لن يكون لك أصدقاء حتى أن اباك وأمك لن يكونوا أصدقائك. 

حتى أنه في اللغة الإنكليزية تم اشتقاق كلمة wise أو حكيم من الجذر weid أي الرؤية، ويرتبط هذا الجذر بكلمات عديدة كالأدلة والنصائح، الإرشاد، الرأي، الآلهة والمعبود وغيرها الكثير من المفاهيم. أما في أساطير شعوب الشمال فقد ضحى الرب أودين بأحد عينيه للآلهة ميمير كي تسمح له بالشرب من ينبوع الحكمة والمعرفة، مما يرمز إلى استبدال وجهة نظر بأخرى أسمى وأرقى. ومن جهة فقد أطلق العلماء على جنسنا البشري الحالي Homo sapien أي الانسان الحكيم. 

الحكمة تحت مجهر التفكير 

ما هي الحكمة بالضبط؟ يعتقد الكثيرون الحكمة والمعرفة مفهومان مترابطان بل وربما متطابقان. حيث يفترض المرء أن الحكمة هي المعرفة الكبيرة. وفي حال كانت المعرفة كذلك فهذا يعني أنها ستكون نوعاً محدداً من المعرفة وإلا كان حفظ أرقام دليل الهاتف أو معرفة أسماء العواصم نوعاً من الحكمة، ويجب القول أن المعرفة ليست أيضاً المعرفة التقنية أو العلمية وإلا كان جيل الشباب أكثر حكمة من سقراط أو أفلاطون. 

يذكر التاريخ أن عرافة ديلفي تم سؤالها عما إذا كان هناك من هو أحكم من سقراط، وقد أجابت أنه لا أحد أكثر حكمة منه. وعندما سعى سقراط إلى اكتشاف معنى هذا التصريح الإلهي قام بسؤال العديد ممن ادعوا الحكمة ومنهم سياسيين وقادة جيوش وشعراء وحرفيين وقد استنتج مع كل حديث مع هؤلاء هو أنه ربما يكون أكثر حكمة ممن سألهم لأنه لا يدعي معرفة ما لا يعرفه. 

ومنذ ذلك الحين سعى سقراط إلى البحث عمن يتمتع بالحكمة وإلى من يفتقر أليها كي يقوم بلفت انتباهه إلى ذلك. ونتيجة لذلك وعلى مر السنين أصبح الكثيرون يعادون سقراط ويحتقرونه حتى بلغت كراهيتهم له إلى درجة الحكم عليه بالإعدام، وقد تم تخليده في التاريخ نتيجة لذلك حيث يذكر العديدون سقراط نتيجة محاكمته وإعدامه. 

يخبرنا الإنجيل أيضاً أنه حيث يحل التكبر والغرور يحل العار، إلا أنه حيث يحل التواضع تحل الحكمة. ولذلك كان سقراط هو الأحكم على الإطلاق ليس لأنه يعرف كل شئ وأي شئ، بل لأنه كان يعرف ما لا يعرفه وكان مدركاً لحدود معرفته. والواقع أن العالم قد اجتمع على هذه الفكرة في القرن الخامس قبل الميلاد وذلك لأن بوذا المستنير وكونفوشيوس قد رددوا كلام سقراط من بعيد. 

لكن يجب القول بأن الحكمة السلبية لا تمثل مفهوم الحكمة بالمجمل، وإلا كان كل شخص يتمتع بالشك والتساؤل حكيماً. وربما كانت الحكمة هي أن تكون لديك معايير معرفية صارمة لما تؤمن به وتصدقه، ومعايير أكثر صرامة لاعتبار هذه المعتقدات معرفة من نوع ما.

وفي حال كانت الحكمة ليست أمراً يمكن تعليمه، فمن أين يأتي الناس الأخيار؟ يجيب سقراط عن هذا السؤال بأن الأفعال الجيدة تأتي نتيجة التوجيه والإرشاد وليس نتيجة المعرفة. 

الحكمة تحت مجهر العلم 

في جامعة كاليفورنيا الأمريكية اجتمع عدد من الباحثين واستطاعوا استنباط مقياس لتقدير مستوى الحكمة التي يتمتع بها الشخص، وقد ابتكروا اختباراً يحدد مدى حكمة المرء. وقد نشروا نتائج بحثهم في مجلة علم نفس الشيوخ الدورية، وقد تمخض البحث عن نتيجة تفيد بأن الحكمة تتألف من سبعة جوانب أو خواص مختلفة ويمكن لكل من هذه الخواص يمكن قياسها بسؤال واحد. 

وقد جاء في الدراسة المنشورة أن الحكمة هي صفة من صفات الشخصية التي تتألف من سبعة خواص هي: إدراك الذات، السلوك الاجتماعي، التحكم بالعواطف والانفعالات، تقبل وجهات النظر المتنوعة والمختلفة، الحزم في القرارات، القدرة على إسداء النصائح، والروحانية. وقد صرحت أبحاث سابقة بأن الحكمة مرتبطة بشكل وثيق مع الصحة العقلية والعاطفية، وهي أحد أهم الحواجز التي تحمي المرء من التوتر والقلق والاكتئاب والشعور بالوحدة. 

وقبل أن يتم نشر هذه الدراسة كان الباحثون يعتمدون في تجرابهم السريرية على اسلوب لقياس الحكمة يعرف بمقياس سان دييغو ذي الثمانية وعشرين سؤالاً، إلا أن نفس الفريق اختصر المقياس إلى سبعة أسئلة وهو مشابه في الفعالية لنظيره الأطول. 

وقد تم اختيار النوع الصحيح من الأسئلة التي تهدف إلى الحصول على المعلومات الهامة التي تساهم في التقدم العلمي وأيضاً تدعم ما تم حيازته من بيانات تفيد بأن الحكمة مرتبطة بشكل وثيق مع الصحة وطول العمر. 

وردت في الدراسة العديد من الأسئلة والعبارت التي تدل على شخصية المرء، مثل عدم معرفة كيفية إسداء النصائح أو تجنب المواقف التي يحتاج فيها الناس للمساعدة، أو التأجيل والمماطلة في اتخاذ القرارات الصحيحة. وهذه العبارات تشير إلى القدرة على التحلي بثلاثة من أعمدة الحكمة السبعة وهي إسداء النصح والسلوك الاجتماعي والحزم. 

من جهة أخرى وردت عبارات هامة في الدراسة تشير إلى القدرة على التحكم بالعواطف وأيضاً التفكير في الذات وتقبل الآخر وهي: "استطيع البقاء هادئاً تحت الضغط النفسي"، "أتجنب التفكير في ذاتي"، و أيضاً "أنا أحب سماع وجهات النظر المختلفة عما لدي". 

أما عن عبارة "معتقدي الروحاني يمدني بالقوة" والتي تشير إلى الروحانيات في مجال الحكمة فقد اتضح أنها أقل جوانب الحكمة إشارة إليها. 

وعند قيام الفريق البحثي بتحليل إجابات المشاركين لوحظ بأن السيدات وكبار السن والأشخاص الذين يتمتعون بالصحة العقلية، الحياة الاجتماعية الناشطة، المرونة النفسية، والسعادة كانوا أكثر حكمة من غيرهم. وعلى العكس من ذلك فإن الوحدة ترافقت مع مستوى منخفض من الحكمة، مما يشير بقوة إلى دور الحكمة في الوقاية من الأمراض العقلية. 

في النهاية يمكن تلخيص أهمية البحث في حاجة الانسان للحكمة كي يزدهر في الحياة. حيث يمكن لهذه الأسئلة أن تكون دليلاً لنا يساعد في تقديم النصح والإرشاد  للأشخاص الذين في أمس الحجة لها. 
Comments